مقالات مختارة

كيف يشوه الإعلام نظرتنا لذواتنا؟

نور نيوز-ساره المصري

 

قبل أن يسكب القلم حروفه دعوني أشعل شمعة الفكر لترقص معانيها في أفق الاستفهامات. هنا، تتولد تساؤلات ملهمة لطالما راودتني في رحلة اكتشافي لنفسي، لأعرف من أنا بين الناس وما هي نظرتي إلى الناس. فأتساءل : كيف أرى الناس بعيني؟ هل أعتبر اختلافاتهم فاصلًا بيني وبينهم؟ هل يظهرون كلوحة فنية تجمع بين الروحانية والعبق الفكري، أم كأشكال تتناسب أو لا تتناسب مع ملامح توقعاتي؟ ما هو شكل النقص؟ وما هي كمالية الجمال؟ وكيف تزداد الحياة بريقاً بوجود الكمال وعيوبه في آن واحد؟ تلك الأسئلة تتجول في متاهات عقلي، مستلهمة إجاباتها من جمال الاكتشاف، لأكون وجهة نظري التي أطرحها عليكم فيما يلي. فما هي إجابتكم عن كل ما سبق؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تساؤلات فلسفية، وإنما نافذة لتوجيه نظرة عميقة نحو أنفسنا والآخرين.

 

في هذا السياق، يتساءل الفكر عميقًا حول قوة التأثير المتبادل بيننا وبين الآخرين، سواء كانت إيجابية أم سلبية، وكذلك بيننا وبين التقنية ووسائل الإعلام. هل يعمل هذا التأثير في بناء مجتمع يتسم بالتقبل؟ أم يشكل تحديًا لمفهومنا للكمال والنقص، ويعزز الفجوات بيننا؟ ندرك أهمية الحوار والتفاعل الفعّال مع الآخرين كوسيلة لاكتساب رؤى جديدة وتوسيع آفاق فكرنا. ومع ذلك، يطرح السؤال حول كيفية توجيه أفكارنا وتعبيرنا عن ما حولنا بعد تأثير وسائل الإعلام علينا. قد يؤدي التفاعل المستمر مع وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام إلى تشكيل مفاهيم وترسيخ أفكار في أعماقنا، دون أن نلمس ذلك، نتيجة الانخراط غير المدرك فيها في ظل افتقارنا للتثقيف حول التأثير المبطن الذي تحدثه في عقولنا، مما يؤدي إلى تشويه معتقداتنا الشخصية وصورة الآخرين في أعيننا.

 

وفي ظل السطوة الرقمية لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، يتجلى التأثير الكبير لهذه الوسائل في تشكيل تصوّراتنا حول الجمال وتعريفنا للكمال والنقص. إذ تصنع الفلاتر الرقمية وهمًا للجمال، تخفي العيوب الطبيعية وتتنتج صور لا تعكس حقيقتنا. هذه الصور، التي لا تحمل علامات الحياة والتجارب، ولا تحمل حقيقة من نكون، تمحو جمالنا الطبيعي، وتلبسنا أقنعة أخرى بمعايير جمالية أخرى، مما يعزز مفهوم الكمال الخالي من النقص. إذ يصبح من الصعب علينا تقبل الوجه الحقيقي والجسد الطبيعي، ونلزم أنفسنا بمعايير لا تمت للواقع بصلة لنسير وفقاً للتيار.

 

هذا التأثير يعزز مفهوماً ضيّقًا للجمال، دون الاكتراث الى التنوع يستند إلى المظاهر الخارجية والمعايير القائمة على المظهر الخارجي والتناسق المثالي والكمال حتى الوصول إلى هوس الكمال. مما يسبب ضغوط نفسية تؤثر في تقبل الذات والماهية التي خلقت عليها وصورة الفرد في عين نفسه، إذ يجد الأفراد أنفسهم عالقين بين رغبة في تحقيق المعايير الإعلامية وبين النقص الذي يظهر لهم بصورة مستمرة، النقص الذي شكل في عقولهم نظراً لرؤية آخرين لاحقوا الكمال وألزموا أنفسهم بالمعايير المطروحة.

 

الإعلام ليس فقط مصدرًا للمعلومات، بل يشكل تأثيرًا عميقًا في بناء ثقافتنا ومعتقداتنا وتصرفاتنا حتى. بالتالي، يتطلب منا الفهم الجيد لاستراتيجيات الاعلام  و النظر بعمق في كيفية تسييرنا نحو أشياء عديدة وتشكيله لمعايير الجمال في اذهاننا، وكيف نحقق توازن صحي بين تقبل أنفسنا كما نحن وبين تأثير معايير الجمال المفروضة وغير القابلة للتحقيق، حتى لا نقع في دوامة من الصراعات النفسية، وهذا لا يُمكن إنكاره. الصور المعدلة تظهر كمثال للكمال الذي يصبح معيارًا لا مفر منه، مما يُشعل هوسًا بالكمال وعدم قبول الذات كما هي، خاصةً مع الاستخدام المتكرر لتلك الفلاتر والنظر الى الوجوه المثالية في الإعلانات، وعندها يقارن الفرد بين صورته المعدلة وواقعه الفعلي، يصبح بعدها عرضة للصدمة والانفصال عن ذاته، ويلاحظ التباين بين واقعه وصوره المرقمنة.

 

وهذا كله ينعكس بشكل كبير على تصورات المجتمع للمظهر الخارجي والعيوب الطبيعية خاصة بعد أن فُرِضت معايير جديدة عليه، وأُخِذ بها من قبل الأفراد بعدما مُرِّرَت بوسائل عدة، مما يعود بالفائدة على جهات كثيرة منها أخصائيي التجميل، فهذا كله يدفع الشباب والشابات تحديداً الراضخين لتأثير الإعلام على وضع شروط أكثر للزواج، وذلك بسبب وضوح الفارق بين صور الإعلام والواقع. لأن الصور المعروضة مثالية تُظهر المظهر الخارجي بشكل متجمل، مما يخلق توقعات غير واقعية بين الشباب.

 

في النهاية، يثير التساؤل الأساسي: كيف يمكننا التوازن بين قبول ذواتنا وتأثير الإعلام الرقمي في تصوّرنا للجمال والكمال؟ يشكل فهم هذا التأثير خطوة مهمة نحو تعزيز رؤيتنا وقبولنا لبعضنا. يدفعنا ذلك لزيادة وعينا لمعرفة تأثير الوسائط الرقمية على تغيير تصوّراتنا الشخصية لأنفسنا وللآخرين. علينا أن  ننظر بعمق للحقيقة، ونسعى جاهدين لتحقيق التقبل والتوازن الداخلي. من خلال تركيزنا على قيمنا الشخصية وتنوعها، ونحسن منّ أفكارنا لمواجهة التحديات التي تصادمنا في تفاعلنا مع العالم الرقمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى